كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فَصْلٌ:
فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاجِبَ طَلَبُ عِلْمِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ وَمَعْرِفَةِ مَا أَرَادَ بِذَلِكَ كَمَا كَانَ عَلَى ذَلِكَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ فَكُلُّ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهِ فِي دِينِهِمْ فَقَدْ بَيَّنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَيَانًا شَافِيًا فَكَيْفَ بِأُصُولِ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ ثُمَّ إذَا عُرِفَ مَا بَيَّنَهُ الرَّسُولُ نُظِرَ فِي أَقْوَالِ النَّاسِ وَمَا أَرَادُوهُ بِهَا فَعُرِضَتْ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَالْعَقْلُ الصَّرِيحُ دَائِمًا مُوَافِقٌ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لَا يُخَالِفُهُ قَطُّ فَإِنَّ الْمِيزَانَ مَعَ الْكِتَابِ وَاَللَّهُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانِ؛ لَكِنْ قَدْ تَقْصُرُ عُقول النَّاسِ عَنْ مَعْرِفَةِ تَفْصِيلِ مَا جَاءَ بِهِ فَيَأْتِيهِمْ الرَّسُولُ بِمَا عَجَزُوا عَنْ مَعْرِفَتِهِ وَحَارُوا فِيهِ لَا بِمَا يَعْلَمُونَ بِعُقولهمْ بُطْلَانَهُ فَالرُّسُلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ تُخْبِرُ بِمَحَارَاتِ الْعُقول لَا تُخْبِرُ بِمُحَالَاتِ الْعُقول فَهَذَا سَبِيلُ الْهُدَى وَالسُّنَّةِ وَالْعِلْمِ وَأَمَّا سَبِيلُ الضَّلَالِ وَالْبِدْعَةِ وَالْجَهْلِ فَعَكْسُ ذَلِكَ: أَنْ يَبْتَدِعَ بِدْعَةٌ بِرَأْيِ رِجَالٍ وَتَأْوِيلَاتِهِمْ ثُمَّ يَجْعَلَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ تَبَعًا لَهَا وَيُحَرَّفَ أَلْفَاظَهُ وَيَتَأَوَّلُ عَلَى وَفْقٍ مَا أَصَّلُوهُ. وَهَؤُلَاءِ تَجِدُهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَلَا يَتَلَقَّوْنَ الْهُدَى مِنْهُ وَلَكِنْ مَا وَافَقَهُمْ مِنْهُ قَبِلُوهُ وَجَعَلُوهُ حُجَّةً لَا عُمْدَةً وَمَا خَالَفَهُمْ تَأَوَّلُوهُ كَاَلَّذِينَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ أَوْ فَوَّضُوهُ كَاَلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ وَهَؤُلَاءِ قَدْ لَا يَعْرِفُونَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ: إمَّا عَجْزًا وَإِمَّا تَفْرِيطًا فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مُقَدِّمَتَيْنِ: أَنَّ الرَّسُولَ قال كَذَا وَأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ كَذَا أَمَّا الْأُولَى فَعَامَّتُهُمْ لَا يَرْتَابُونَ فِي أَنَّهُ جَاءَ بِالقرآن وَإِنْ كَانَ مِنْ غُلَاةِ أَهْلِ الْبِدَعِ مَنْ يَرْتَابُ فِي بَعْضِهِ لَكِنَّ الْأَحَادِيثَ عَامَّةٌ أَهْلُ الْبِدَعِ جُهَّالٌ بِهَا وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ هَذِهِ رَوَاهَا آحَادٌ يُجَوِّزُونَ عَلَيْهِمْ الْكَذِبَ وَالْخَطَأَ وَلَا يَعْرِفُونَ مِنْ كَثْرَةِ طُرُقِهَا وَصِفَاتِ رِجَالِهَا وَالْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّصْدِيقِ بِهَا مَا يَعْلَمُهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَقْطَعُونَ قَطْعًا يَقِينًا بِعَامَّةِ الْمُتُونِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي فِي الصَّحِيحَيْنِ كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: فَإِنَّهُمْ قَدْ لَا يَعْرِفُونَ مَعَانِيَ القرآن وَالْحَدِيثِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقول: الْأَدِلَّةُ اللَّفْظِيَّةُ لَا تُفِيدُ الْيَقِينَ بِمُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى فَسَادِ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ إنَّمَا يَنْظُرُ مِنْ تَفْسِيرِ القرآن وَالْحَدِيثِ فِيمَا يَقوله مُوَافِقُوهُ عَلَى الْمَذْهَبِ فَيَتَأَوَّلُ تَأْوِيلَاتِهِمْ فَالنُّصُوصُ الَّتِي تُوَافِقُهُمْ يَحْتَجُّونَ بِهَا وَاَلَّتِي تُخَالِفُهُمْ يَتَأَوَّلُونَهَا وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَمْ يَكُنْ عُمْدَتُهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ اتِّبَاعَ نَصٍّ أَصْلًا وَهَذَا فِي الْبِدَعِ الْكِبَارِ مِثْلَ الرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّة فَإِنَّ الَّذِي وَضَعَ الرَّفْضَ كَانَ زِنْدِيقًا ابْتَدَأَ تَعَمُّدَ الْكَذِبِ الصَّرِيحِ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّهُ كَذِبٌ كَاَلَّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ مِنْ الْيَهُودِ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ثُمَّ جَاءَ مَنْ بَعْدَهُمْ مَنْ ظَنَّ صِدْقَ مَا افْتَرَاهُ أُولَئِكَ وَهُمْ فِي شَكٍّ مِنْهُ كَمَا قال تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} وَكَذَلِكَ الْجَهْمِيَّة لَيْسَ مَعَهُمْ عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ وَعُلُوِّ اللَّهِ عَلَى الْعَرْشِ وَنَحْوِ ذَلِكَ نَصٌّ أَصْلًا لَا آيَةٌ وَلَا حَدِيثٌ وَلَا أَثَرٌ عَنْ الصَّحَابَةِ، بَلْ الَّذِي ابْتَدَأَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ اتِّبَاعَ الْأَنْبِيَاءِ بَلْ وَضَعَ ذَلِكَ كَمَا وُضِعَتْ عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَدْيَانِ الْكُفَّارِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلرُّسُلِ كَمَا ذُكِرَ عَنْ مُبَدِّلَةِ الْيَهُودِ ثُمَّ فَشَا ذَلِكَ فِيمَنْ لَمْ يَعْرِفُوا أَصْلَ ذَلِكَ. وَهَذَا بِخِلَافِ بِدْعَةِ الْخَوَارِجِ؛ فَإِنَّ أَصْلَهَا مَا فَهِمُوهُ مِنْ القرآن فَغَلِطُوا فِي فَهْمِهِ وَمَقْصُودُهُمْ اتِّبَاعُ القرآن بَاطِنًا وَظَاهِرًا لَيْسُوا زَنَادِقَةً. وَكَذَلِكَ الْقَدَرِيَّةُ أَصْلُ مَقْصُودِهِمْ تَعْظِيمُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلَ وَيَتَّبِعُونَ مِنْ القرآن مَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ. فَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَأَمْثَالُهُ لَمْ يَكُنْ أَصْلُ مَقْصُودِهِمْ مُعَانَدَةُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم كَاَلَّذِي ابْتَدَعَ الرَّفْضَ. وَكَذَلِكَ الْإِرْجَاءُ إنَّمَا أحدثَهُ قَوْمٌ قَصْدُهُمْ جَعْلُ أَهْلِ الْقِبْلَةِ كُلِّهِمْ مُؤْمِنِينَ لَيْسُوا كُفَّارًا قَابَلُوا الْخَوَارِجَ وَالْمُعْتَزِلَةَ فَصَارُوا فِي طَرَفٍ آخَرَ. وَكَذَلِكَ التَّشَيُّع الْمُتَوَسِّطُ- الَّذِي مَضْمُونُهُ تَفْضِيلُ على وَتَقْدِيمُهُ عَلَى غَيْرِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْ أحداثِ الزَّنَادِقَةِ بِخِلَافِ دَعْوَى النَّصِّ فِيهِ وَالْعِصْمَةِ فَإِنَّ الَّذِي ابْتَدَعَ ذَلِكَ كَانَ مُنَافِقًا زِنْدِيقًا وَلِهَذَا قال: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَيُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ وَغَيْرُهُمَا: أُصُولُ الْبِدَعِ أَرْبَعَةٌ: الشِّيعَةُ وَالْخَوَارِجُ وَالْقَدَرِيَّةُ وَالْمُرْجِئَةُ.
قالوا: وَالْجَهْمِيَّة لَيْسُوا مِنْ الثِّنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً. وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ عَنْ أَصْحَابِ أَحْمَد فِي ذَلِكَ قوليْنِ هَذَا أحدهُمَا. وَهَذَا أَرَادُوا بِهِ التَّجَهُّمَ الْمَحْضَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ جَهْمٌ نَفْسُهُ وَمُتَّبِعُوهُ عَلَيْهِ وَهُوَ نَفْيُ الْأَسْمَاءِ مَعَ نَفْيِ الصِّفَاتِ بِحَيْثُ لَا يُسَمَّى اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَلَا يُسَمِّيهِ شَيْئًا وَلَا مَوْجُودًا وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُسَمِّيهِ قَادِرًا- لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَسْمَاءِ يُسَمَّى بِهَا الْخَلْقُ فَزَعَمَ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهَا التَّشْبِيهُ بِخِلَافِ الْقَادِرِ- فَإِنَّهُ كَانَ رَأْسَ الْجَبْرِيَّةِ وَعِنْدَهُ لَيْسَ لِلْعَبْدِ قُدْرَةٌ وَلَا فِعْلٌ وَلَا يُسَمَّى غَيْرُ اللَّهِ قَادِرًا؛ فَلِهَذَا نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ سَمَّى اللَّهَ قَادِرًا. وَشَرٌّ مِنْهُ نفاة الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَهُمْ الْمَلَأحدةُ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالقرامطة وَلِهَذَا كَانَ هَؤُلَاءِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ قَاطِبَةً مَلَأحدةً مُنَافِقِينَ بَلْ فِيهِمْ مِنْ الْكُفْرِ الْبَاطِنِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ كُفْرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَهَؤُلَاءِ لَا رَيْبَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ الثِّنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَإِذَا أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ فَغَايَتُهُمْ أَنْ يَكُونُوا مُنَافِقِينَ كَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأُولَئِكَ كَانُوا أَقْرَبَ إلَى الْإِسْلَامِ مِنْ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَلْتَزِمُونَ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةَ وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَقولونَ بِرَفْعِهَا فَلَا صَوْمَ وَلَا صَلَاةَ وَلَا حَجَّ وَلَا زَكَاةَ؛ لَكِنْ قَدْ يُقال: إنَّ أُولَئِكَ كَانُوا قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ بِالرِّسَالَةِ أَكْثَرَ مِنْ هَؤُلَاءِ. وَأَمَّا مَنْ يَقول بِبَعْضِ التَّجَهُّمِ كَالْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ الَّذِينَ يَتَدَيَّنُونَ بِدِينِ الْإِسْلَامِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَهَؤُلَاءِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بِلَا رَيْبٍ. وَكَذَلِكَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمْ كَالْكُلَّابِيَة والكَرَّامِيَة. وَكَذَلِكَ الشِّيعَةُ الْمُفَضِّلِينَ لِعَلِيِّ وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ يَقول بِالنَّصِّ وَالْعِصْمَةِ مَعَ اعْتِقَادِهِ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَظَنِّهِ أَنَّ مَا هُوَ عَلَيْهِ هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ فَهَؤُلَاءِ أَهْلُ ضَلَالٍ وَجَهْلٍ لَيْسُوا خَارِجِينَ عَنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بَلْ هُمْ مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا. وَعَامَّةُ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ يَتَّبِعُ مَا تَشَابَهَ مِنْ القرآن ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ كَمَا أَنَّ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَالْكُفَّارِ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَلِهَذَا قال طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ: كَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: هُمْ النَّصَارَى كَنَصَارَى نَجْرَانَ وَقالتْ طَائِفَةٌ كَالْكَلْبِيِّ: هُمْ الْيَهُودُ: وَقالتْ طَائِفَةٌ كَابْنِ جريج: هُمْ الْمُنَافِقُونَ. وَقالتْ طَائِفَةٌ كَالْحَسَنِ هُمْ الْخَوَارِجُ. وَقالتْ طَائِفَةٌ كقتادة: هُمْ الْخَوَارِجُ وَالشِّيعَةُ. وَكَانَ قتادة إذَا قرأ هَذِهِ الْآيَةَ: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} يَقول إنْ لَمْ يَكُونُوا الحرورية وَالسَّبَئِيَّةَ فَلَا أَدْرِي مَنْ هُمْ. وَالسَّبَئِيَّةُ نِسْبَةً إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَبَأٍ رَأْسِ الرَّافِضَةِ.
فَصْلٌ:
وَالْمَعْنَى الصَّحِيحُ الَّذِي هُوَ نَفْيُ الْمِثْلِ وَالشَّرِيكِ وَالنِّدِّ قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قوله سبحانه: {أحد} وَقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحد} وَقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فَالْمَعَانِي الصَّحِيحَةُ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْعَقْلُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.
وَقول الْقَائِلِ: الْأحد أَوْ الصَّمَدُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي لَا يَنْقَسِمُ وَلَا يَتَفَرَّقُ أَوْ لَيْسَ بِمُرَكَّبِ وَنَحْوُ ذَلِكَ. هَذِهِ الْعِبَارَاتُ إذَا عُنِيَ بِهَا أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّفَرُّقَ وَالِانْقِسَامَ فَهَذَا حَقٌّ وَأَمَّا إنْ عُنِيَ بِهِ أَنَّهُ لَا يُشَارُ إلَيْهِ بِحَالٍ أَوْ مِنْ جِنْسِ مَا يَعْنُونَ بِالْجَوْهَرِ الْفَرْدِ أَنَّهُ لَا يُشَارُ إلَى شَيْءٍ مِنْهُ دُونَ شَيْءٍ فَهَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُقَلَاءِ يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ وَإِنَّمَا يُقَدَّرُ فِي الذِّهْنِ تَقْدِيرًا وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْعَرَبَ حَيْثُ أَطْلَقَتْ لَفْظَ (الْوَاحد) و(الْأحد) نَفْيًا وَإِثْبَاتًا لَمْ تُرِدْ هَذَا الْمَعْنَى. فَقوله تعالى: {وَإِنْ أحد مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} لَمْ يُرِدْ بِهِ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي فَسَّرُوا بِهِ الْوَاحد وَالْأحد وَكَذَلِكَ قوله: {وَإِنْ كَانَتْ واحدة فَلَهَا النِّصْفُ} وَكَذَلِكَ قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحد} فَإِنَّ الْمَعْنَى لَمْ يَكُنْ لَهُ أحد مِنْ الْآحَادِ كُفُوًا لَهُ فَإِنْ كَانَ الْأحد عِبَارَةً عَمَّا لَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ وَلَا يُشَارُ إلَى شَيْءٍ مِنْهُ دُونَ شَيْءٍ فَلَيْسَ فِي الْمَوْجُودَاتِ مَا هُوَ أحد إلَّا مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ وَمِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ قَدْ نَفَى عَنْ شَيْءٍ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ أَنْ يَكُونَ كُفُوًا لِلرَّبِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي مُسَمَّى أحد. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا بَسْطًا كَثِيرًا فِي الْمَبَاحِثِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ الَّتِي يَذْكُرُهَا نفاة الصِّفَاتِ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَأَتْبَاعِهِمْ فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى (بَيَانُ تَلْبِيسِ الْجَهْمِيَّة فِي تَأْسِيسِ بِدَعِهِمْ الْكَلَامِيَّةِ). وَلِهَذَا لَمَّا احْتَجَّتْ الْجَهْمِيَّة عَلَى السَّلَفِ- كَالإمام أَحْمَد وَغَيْرِهِ- عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ بِاسْمِ الْوَاحد قال أَحْمَد: قالوا لَا تَكُونُونَ مُوَحِّدِينَ أَبَدًا حَتَّى تَقولوا قَدْ كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ قُلْنَا نَحْنُ نَقول كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ وَلَكِنْ إذَا قُلْنَا إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ بِصِفَاتِهِ كُلِّهَا أَلَيْسَ إنَّمَا نَصِفُ إلَهًا واحدًا وَضَرَبْنَا لَهُمْ فِي ذَلِكَ مَثَلًا: فَقُلْنَا: أَخْبِرُونَا عَنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ أَلَيْسَ لَهَا جِذْعٌ وَكَرْبٌ وَلِيفٌ وَسَعَفٌ وَخُوصٌ وَجُمَّارٌ وَاسْمُهَا شيء واحد وَسُمِّيَتْ نَخْلَةً بِجَمِيعِ صِفَاتِهَا؟ فَكَذَلِكَ اللَّهُ- وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى- بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ إلَه وَأحد لَا نَقول: إنَّهُ قَدْ كَانَ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ وَلَا قُدْرَةَ لَهُ حَتَّى خَلَقَ لِنَفْسِهِ قُدْرَةً وَلَا نَقول قَدْ كَانَ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَا يَعْلَمُ حَتَّى خَلَقَ لَهُ عِلْمًا وَلَكِنْ نَقول لَمْ يَزَلْ عَالِمًا قَادِرًا مَالِكًا لَا مَتَى وَلَا كَيْفَ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا أَسْبَابًا. أحدهَا: مَا تَقَدَّمَ عَنْ أبي بْنِ كَعْبٍ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قالوا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اُنْسُبْ لَنَا رَبَّك فَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ.
والثاني: أَنَّ عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ قال لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَامَ تَدْعُونَا إلَيْهِ يَا مُحَمَّدُ؟ قال: «إلَى اللَّهِ» قال: فَصِفْهُ لِي أَمِنْ ذَهَبٍ هُوَ أَمْ مِنْ فِضَّةٍ أَمْ مِنْ حَدِيدٍ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي ظبيان وَأَبِي صَالِحٍ عَنْهُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ بَعْضَ الْيَهُودِ قال ذَلِكَ قالوا: مِنْ أَيِّ جِنْسٍ هُوَ. وَمِمَّنْ وَرِثَ الدُّنْيَا. وَلِمَنْ يُورِثُهَا؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ قالهُ قتادة وَالضَّحَّاكُ قال الضَّحَّاكُ وقتادة وَمُقَاتِلٌ: جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقالوا: يَا مُحَمَّدُ: صِفْ لَنَا رَبَّك؛ لَعَلَّنَا نُؤْمِنُ بِك فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ نَعْتَهُ فِي التَّوْرَاةِ فَأَخْبِرْنَا بِهِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ هُوَ؟ وَمِنْ أَيِّ جِنْسٍ هُوَ: أَمِنْ ذَهَبٍ؟ أَمْ مِنْ نُحَاسٍ هُوَ؟ أَمْ مِنْ صُفْرٍ؟ أَمْ مِنْ حَدِيدٍ؟ أَمْ مِنْ فِضَّةٍ؟ وَهَلْ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ؟ وَمِمَّنْ وَرِثَ الدُّنْيَا؟ وَلِمَنْ يُورِثُهَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ السُّورَةَ وَهِيَ نِسْبَةُ اللَّهِ خَاصَّةً.
وَالرَّابِع: مَا رُوِيَ عَنْ الضَّحَّاكِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ وَفْدَ نَجْرَانَ قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعَةِ أَسَاقِفَةٍ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ: مِنْهُمْ السَّيِّدُ وَالْعَاقِبُ فَقالوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صِفْ لَنَا رَبَّك مِنْ أَيِّ شَيْءٍ هُوَ؟ قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ رَبِّي لَيْسَ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ بَائِنٌ مِنْ الْأَشْيَاءِ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد} فَهَؤُلَاءِ سَأَلُوا هَلْ هُوَ مِنْ جِنْسٍ مِنْ أَجْنَاسِ الْمَخْلُوقَاتِ؟ وَهَلْ هُوَ مِنْ مَادَّةٍ فَبَيَّنَ اللَّهُ تعالى أَنَّهُ أحد لَيْسَ مِنْ جِنْسِ شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَنَّهُ صَمَدٌ لَيْسَ مِنْ مَادَّةٍ بَلْ هُوَ صَمَدٌ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولد وَإِذَا نَفَى عَنْهُ أَنْ يَكُونَ مَوْلُودًا مِنْ مَادَّةِ الْوَالِدِ؛ فَلَأَنْ يَنْفِيَ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ سَائِرِ الْمَوَادِّ أَوْلَى وَأَحْرَى فَإِنَّ الْمَوْلُودَ مِنْ نَظِيرِ مَادَّتِهِ أَكْمَلُ مِنْ مَادَّةِ مَا خُلِقَ مِنْ مَادَّةٍ أُخْرَى كَمَا خُلِقَ آدَمَ مِنْ الطِّينِ فَالْمَادَّةُ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا أَوْلَادُهُ أَفْضَلُ مِنْ الْمَادَّةِ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا هُوَ وَلِهَذَا كَانَ خَلْقُهُ أَعْجَبَ. فَإِذَا نَزَّهَ الرَّبَّ عَنْ الْمَادَّةِ الْعُلْيَا فَهُوَ عَنْ الْمَادَّةِ السُّفْلَى أَعْظَمُ تَنْزِيهًا وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ إذَا كَانَ مُنَزَّهًا عَنْ أَنْ يَكُونَ أحد كُفُوًا لَهُ فَلَأَنْ يَكُونَ مُنَزَّهًا عَنْ أَنْ يَكُونَ أحد أَفْضَلُ مِنْهُ أَوْلَى وَأَحْرَى. وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ التَّنْزِيهِ وَالتَّحْمِيدِ عَلَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَلِهَذَا كَانَتْ تَعْدِلُ ثُلُثَ القرآن. فَالصَّمَدِيَّةُ تُثْبِتُ الْكَمَالَ الْمُنَافِيَ لِلنَّقَائِصِ. والأحدية تُثْبِتُ الِانْفِرَادَ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إذَا نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ أَنْ يَلِدَ فَيَخْرُجُ مِنْهُ مَادَّةُ الْولد الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ الْمَوَادِّ فَلَأَنْ يُنَزِّهَ نَفْسَهُ عَنْ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ مَادَّةٌ غَيْرُ الْولد بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى وَإِذَا نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ مَوَادُّ لِلْمَخْلُوقَاتِ فَلَأَنْ يُنَزَّهَ عَنْ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ فَضَلَاتٌ لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ مَادَّةً بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى وَالْإِنْسَانُ يَخْرُجُ مِنْهُ مَادَّةُ الْولد وَيَخْرُجُ مِنْهُ مَادَّةُ غَيْرِ الْولد كَمَا يُخْلَقُ مِنْ عَرَقِهِ وَرُطُوبَتِهِ الْقَمْلُ وَالدُّودُ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمُخَاطُ وَالْبُصَاقُ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ أَهْلَ الْجَنَّةِ عَنْ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَأَخْبَرَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ لَا يَبُولُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ وَلَا يَبْصُقُونَ وَلَا يَتَمَخَّطُونَ وَأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهُمْ مِثْلُ رَشْحِ الْمِسْكِ وَأَنَّهُمْ يُجَامِعُونَ بِذَكَرِ لَا يَخْفَى وَشَهْوَةٍ لَا تَنْقَطِعُ وَلَا مَنِيٍّ وَلَا مَنِيَّةٍ وَإِذَا اشْتَهَى أحدهُمْ الْولد كَانَ حَمْلُهُ وَوَضْعُهُ فِي زَمَنٍ يَسِيرٍ. فَقَدْ تَضَمَّنَ تَنْزِيهَ نَفْسِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ ولد وَأَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ الْأَشْيَاءِ كَمَا يَخْرُجُ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَهَذَا أَيْضًا مِنْ تَمَامِ مَعْنَى الصَّمَدِ كَمَا سَبَقَ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّهُ الَّذِي لَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ وَكَذَلِكَ تَنْزِيهُ نَفْسِهِ عَنْ أَنْ يُولد- فَلَا يَكُونُ مِنْ مِثْلِهِ- تَنْزِيهٌ لَهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ سَائِرِ الْمَوَادِّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أبي بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُولد إلَّا سَيَمُوتُ وَلَيْسَ شَيْءٌ يَمُوتُ إلَّا يُورَثُ وَاَللَّهُ تعالى لَا يَمُوتُ وَلَا يُورَثُ وَهَذَا رَدٌّ لِقول الْيَهُودِ: مِمَّنْ وَرِثَ الدُّنْيَا وَلِمَنْ يُورِثُهَا؟ وَكَذَلِكَ مَا نُقِلَ مِنْ سُؤَالِ النَّصَارَى: صِفْ لَنَا رَبَّك: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ هُوَ؟ فَقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ رَبِّي لَيْسَ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ بَائِنٌ مِنْ الْأَشْيَاءِ» وَكَذَلِكَ سُؤَالُ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ: أَمِنْ فِضَّةٍ هُوَ؟ أَمْ مِنْ ذَهَبٍ هُوَ؟ أَمْ مِنْ حَدِيدٍ؟ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ عَهِدُوا الْآلِهَةَ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ يَكُونُ لَهَا مَوَادُّ صَارَتْ مِنْهَا فَعُبَّادُ الْأَوْثَانِ تَكُونُ أَصْنَامُهُمْ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَحَدِيدٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَعُبَّادُ الْبَشَرِ سَوَاءٌ كَانَ الْبَشَرُ لَمْ يَأْمُرُوهُمْ بِعِبَادَتِهِمْ أَوْ أَمَرُوهُمْ بِعِبَادَتِهِمْ كَاَلَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْمَسِيحَ وَعُزَيْرَ وَكَقَوْمِ فِرْعَوْنَ الَّذِينَ قال لَهُمْ {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} و{مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِي} وَقال لِمُوسَى: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} وَكَاَلَّذِي آتَاهُ اللَّهُ نَصِيبًا مِنْ الْمُلْكِ الَّذِي حَاجَّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ إذْ قال إبْرَاهِيمُ: رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قال أنا أُحْيِي وَأُمِيتُ وَكَالدَّجَّالِ الَّذِي يَدَّعِي الْإِلَهِيَّةَ وَمَا مِنْ خَلْقِ آدَمَ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ فِتْنَةٌ أَعْظَمُ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ وَكَاَلَّذِينَ قالوا: {لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}. وَقَدْ قال غير واحد مِنْ السَّلَفِ: إنَّ هَذِهِ أَسْمَاءُ قَوْمٍ صَالِحِينَ كَانُوا فِيهِمْ فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَبَدُوهُمْ وَذَلِكَ أَوَّلُ مَا عُبِدَتْ الْأَصْنَامُ وَأَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ صَارَتْ إلَى الْعَرَبِ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: صَارَتْ الْأَوْثَانُ الَّتِي فِي قَوْمِ نُوحٍ فِي الْعَرَبِ بَعْدُ. أَمَّا وَدٌّ فَكَانَتْ لِكَلْبِ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ وَأَمَّا سُوَاعٌ فَكَانَتْ لهذيل وَأَمَّا يَغُوثُ فَكَانَتْ لِمُرَادٍ ثُمَّ لِبَنِي غطيف بِالْجَرْفِ عِنْد سَبَإِ وَأَمَّا يَعُوقُ فَكَانَتْ لهمدان وَأَمَّا نَسْرٌ فَكَانَتْ لِحِمْيَرَ لِآلِ ذِي الْكُلَاعِ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إلَى قَوْمِهِمْ أَنْ انْصِبُوا إلَى مَجَالِسِهِمْ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ فِيهَا أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَنُسِخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ. وَنُوحٌ عَلَيْهِ السلام أَقَامَ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا يَدْعُوهُمْ إلَى التَّوْحِيدِ وَهُوَ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إلَى أَهْلِ الْأَرْضِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم خَاتَمُ الرُّسُلِ وَكِلَا الْمُرْسَلِينَ بُعِثَ إلَى مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ هَذِهِ الْأَصْنَامَ الَّتِي صُوِّرَتْ عَلَى صُوَرِ الصَّالِحِينَ مِنْ الْبَشَرِ وَالْمَقْصُودُ بِعِبَادَتِهَا عِبَادَةُ أُولَئِكَ الصَّالِحِينَ. وَكَذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمِنْ مُبْتَدَعَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَضُلَّالِهَا هَذَا غَايَةُ شِرْكِهِمْ فَإِنَّ النَّصَارَى يُصَوِّرُونَ فِي الْكَنَائِسِ صُوَرَ مَنْ يُعَظِّمُونَهُ مِنْ الْإِنْسِ غَيْرِ عِيسَى وَأُمِّهِ: مِثْلَ مَارّ جرجس وَغَيْرِهِ مِنْ الْقَدَادِيسِ وَيَعْبُدُونَ تِلْكَ الصُّوَرَ وَيَسْأَلُونَهَا وَيَدْعُونَهَا وَيُقَرِّبُونَ لَهَا القرابين وَيَنْذِرُونَ لَهَا النُّذُورَ وَيَقولونَ هَذِهِ تُذَكِّرُنَا بِأُولَئِكَ الصَّالِحِينَ. وَالشَّيَاطِينُ تُضِلُّهُمْ كَمَا كَانَتْ تُضِلُّ الْمُشْرِكِينَ: تَارَةً بِأَنْ يَتَمَثَّلَ الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ ذَلِكَ الشَّخْصِ الَّذِي يُدْعَى وَيُعْبَدُ فَيَظُنُّ دَاعِيهِ أَنَّهُ قَدْ أَتَى أَوْ يَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ صَوَّرَ مَلَكًا عَلَى صُورَتِهِ فَإِنَّ النَّصْرَانِيَّ مَثَلًا يَدْعُو فِي الْأَسْرِ وَغَيْرِهِ مَارّ جرجس أَوْ غَيْرَهُ فَيَرَاهُ قَدْ أَتَاهُ فِي الْهَوَاءِ وَكَذَلِكَ أُخَرُ غَيْرُهُ وَقَدْ سَأَلُوا بَعْضَ بَطَارِقَتِهِمْ عَنْ هَذَا كَيْفَ يُوجَدُ فِي هَذِهِ الْأَمَاكِنِ فَقال: هَذِهِ مَلَائِكَةٌ يَخْلُقُهُمْ اللَّهُ عَلَى صُورَتِهِ تُغِيثُ مَنْ يَدْعُوهُ وَإِنَّمَا تِلْكَ شَيَاطِينُ أَضَلَّتْ الْمُشْرِكِينَ. وَهَكَذَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ وَالشِّرْكِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ فَإِنَّ أحدهُمْ يَدْعُو وَيَسْتَغِيثُ بِشَيْخِهِ الَّذِي يُعَظِّمُهُ وَهُوَ مَيِّتٌ أَوْ يَسْتَغِيثُ بِهِ عِنْدَ قَبْرِهِ وَيَسْأَلُهُ وَقَدْ يَنْذِرُ لَهُ نَذْرًا وَنَحْوَ ذَلِكَ وَيَرَى ذَلِكَ الشَّخْصَ قَدْ أَتَاهُ فِي الْهَوَاءِ وَدَفَعَ عَنْهُ بَعْضَ مَا يَكْرَهُ أَوْ كَلَّمَهُ بِبَعْضِ مَا سَأَلَهُ عَنْهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَيَظُنُّهُ الشَّيْخُ نَفْسَهُ أَتَى إنْ كَانَ حَيًّا حَتَّى أَنِّي أَعْرِفُ مِنْ هَؤُلَاءِ جَمَاعَاتٍ يَأْتُونَ إلَى الشَّيْخِ نَفْسِهِ الَّذِي اسْتَغَاثُوا بِهِ وَقَدْ رَأَوْهُ أَتَاهُمْ فِي الْهَوَاءِ فَيَذْكُرُونَ ذَلِكَ لَهُ. هَؤُلَاءِ يَأْتُونَ إلَى هَذَا الشَّيْخِ وَهَؤُلَاءِ يَأْتُونَ إلَى هَذَا الشَّيْخِ فَتَارَةً يَكُونُ الشَّيْخُ نَفْسُهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ بِتِلْكَ الْقَضِيَّةِ فَإِنْ كَانَ يُحِبُّ الرِّيَاسَةَ سَكَتَ وَأَوْهَمَ أَنَّهُ نَفْسَهُ أَتَاهُمْ وَأَغَاثَهُمْ وَإِنْ كَانَ فِيهِ صِدْقٌ مَعَ جَهْلٍ وَضَلَالٍ قال: هَذَا مَلَكٌ صَوَّرَهُ اللَّهُ عَلَى صُورَتِي. وَجَعَلَ هَذَا مِنْ كَرَامَاتِ الصَّالِحِينَ وَجَعَلَهُ عُمْدَةً لِمَنْ يَسْتَغِيثُ بِالصَّالِحِينَ وَيَتَّخِذُهُمْ أَرْبَابًا وَأَنَّهُمْ إذَا اسْتَغَاثُوا بِهِمْ بَعَثَ اللَّهُ مَلَائِكَةً عَلَى صُوَرِهِمْ تُغِيثُ الْمُسْتَغِيثَ بِهِمْ. وَلِهَذَا أَعْرِفُ غير واحد مِنْ الشُّيُوخِ الْأَكَابِرِ الَّذِينَ فِيهِمْ صِدْقٌ وَزُهْدٌ وَعِبَادَةٌ لَمَّا ظَنُّوا هَذَا مِنْ كَرَامَاتِ الصَّالِحِينَ صَارَ أحدهُمْ يُوصِي مُرِيدِيهِ يَقول: إذَا كَانَتْ لِأحدكُمْ حَاجَةٌ فَلْيَسْتَغِثْ بِي وليستنجدني وَلْيَسْتَوْصِنِي وَيَقول: أَنَا أَفْعَلُ بَعْدَ مَوْتِي مَا كُنْت أَفْعَلُ فِي حَيَاتِي وَهُوَ لَا يَعْرِف أَنَّ تِلْكَ شَيَاطِينُ تَصَوَّرَتْ عَلَى صُورَتِهِ لِتُضِلَّهُ وَتُضِلَّ أَتْبَاعَهُ فَتُحَسِّنُ لَهُمْ الْإِشْرَاكَ بِاَللَّهِ وَدُعَاءَ غَيْرِ اللَّهِ وَالِاسْتِغَاثَةَ بِغَيْرِ اللَّهِ وَأَنَّهَا قَدْ تُلْقِي فِي قَلْبِهِ أَنَّا نَفْعَلُ بَعْدَ مَوْتِك بِأَصْحَابِك مَا كُنَّا نَفْعَلُ بِهِمْ فِي حَيَاتِك فَيَظُنُّ هَذَا مِنْ خِطَابٍ إلَهِيٍّ أُلْقِيَ فِي قَلْبِهِ فَيَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ وَأَعْرِفُ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ كَانَ لَهُ شَيَاطِينُ تَخْدِمُهُ فِي حَيَاتِهِ بِأَنْوَاعِ الْخَدَمِ مِثْلَ خِطَابِ أَصْحَابِهِ الْمُسْتَغِيثِينَ بِهِ وَإِعَانَتِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَلَمَّا مَاتَ صَارُوا يَأْتُونَ أحدهُمْ فِي صُورَةِ الشَّيْخِ وَيُشْعِرُونَهُ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ وَيُرْسِلُونَ إلَى أَصْحَابِهِ رَسَائِلَ بِخِطَابِ وَقَدْ كَانَ يَجْتَمِعُ بِي بَعْضُ أَتْبَاعِ هَذَا الشَّيْخِ وَكَانَ فِيهِ زُهْدٌ وَعِبَادَةٌ وَكَانَ يُحِبُّنِي وَيُحِبُّ هَذَا الشَّيْخَ وَيَظُنُّ أَنَّ هَذَا مِنْ الْكَرَامَاتِ وَأَنَّ الشَّيْخَ لَمْ يَمُتْ وَذَكَرَ لِي الْكَلَامَ الَّذِي أَرْسَلَهُ إلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَقرأهُ فَإِذَا هُوَ كَلَامُ الشَّيَاطِينِ بِعَيْنِهِ وَقَدْ ذَكَرَ لِي غير واحد مِمَّنْ أَعْرِفُهُمْ أَنَّهُمْ اسْتَغَاثُوا بِي فَرَأَوْنِي فِي الْهَوَاءِ وَقَدْ أَتَيْتهمْ وَخَلَّصْتهمْ مِنْ تِلْكَ الشَّدَائِدِ مِثْلَ مَنْ أَحَاطَ بِهِ النَّصَارَى الْأَرْمَنُ لِيَأْخُذُوهُ وَآخَرُ قَدْ أَحَاطَ بِهِ الْعَدُوُّ وَمَعَهُ كُتُبٌ مُلَطِّفَاتٌ مِنْ مناصحين لَوْ اطَّلَعُوا عَلَى مَا مَعَهُ لَقَتَلُوهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَذَكَرْت لَهُمْ أَنِّي مَا دَرَيْت بِمَا جَرَى أَصْلًا وَحَلَفْت لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى لَا يَظُنُّوا أَنِّي كَتَمْت ذَلِكَ كَمَا تُكْتَمُ الْكَرَامَاتُ وَأَنَا قَدْ عَلِمْت أَنَّ الَّذِي فَعَلُوهُ لَيْسَ بِمَشْرُوعِ بَلْ هُوَ شِرْكٌ وَبِدْعَةٌ ثُمَّ تَبَيَّنَ لِي فِيمَا بَعْدُ وَبَيَّنْت لَهُمْ أَنَّ هَذِهِ شَيَاطِينُ تَتَصَوَّرُ عَلَى صُورَةِ الْمُسْتَغَاثِ بِهِ. وَحَكَى لِي غير واحد مِنْ أَصْحَابِ الشُّيُوخِ أَنَّهُ جَرَى لِمَنْ اسْتَغَاثَ بِهِمْ مِثْلُ ذَلِكَ وَحَكَى خَلْقٌ كَثِيرٌ أَنَّهُمْ اسْتَغَاثُوا بِأَحْيَاءِ وَأَمْوَاتٍ فَرَأَوْا مِثْلَ ذَلِكَ وَاسْتَفَاضَ هَذَا حَتَّى عُرِفَ أَنَّ هَذَا مِنْ الشَّيَاطِينِ وَالشَّيَاطِينُ تُغْوِي الْإِنْسَانَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ دِينَ الْإِسْلَامِ أَوْقَعَتْهُ فِي الشِّرْكِ الظَّاهِرِ وَالْكُفْرِ الْمَحْضِ فَأَمَرَتْهُ أَنْ لَا يَذْكُرَ اللَّهَ وَأَنْ يَسْجُدَ لِلشَّيْطَانِ وَيَذْبَحَ لَهُ وَأَمَرَتْهُ أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ وَالدَّم وَيَفْعَلَ الْفَوَاحِشَ وَهَذَا يَجْرِي كَثِيرًا فِي بِلَادِ الْكُفْرِ الْمَحْضِ وَبِلَادٍ فِيهَا كُفْرٌ وَإِسْلَامٌ ضَعِيفٌ وَيَجْرِي فِي بَعْضِ مَدَائِنِ الْإِسْلَامِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَضْعُفُ إيمَانُ أَصْحَابِهَا حَتَّى قَدْ جَرَى ذَلِكَ فِي مِصْرَ وَالشَّامِ عَلَى أَنْوَاعٍ يَطُولُ وَصْفُهَا وَهُوَ فِي أَرْضِ الشَّرْقِ قَبْلَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ فِي التَّتَارِ كَثِيرٌ جِدًّا وَكُلَّمَا ظَهَرَ فِيهِمْ الْإِسْلَامُ وَعَرَفُوا حَقِيقَتَهُ قَلَّتْ آثَارُ الشَّيَاطِينِ فِيهِمْ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا يَخْتَارُ الْفَوَاحِشَ وَالظُّلْمَ أَعَانَتْهُ عَلَى الظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا أَكْثَرُ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ فِي الْبِلَادِ الَّتِي فِي أَهْلِهَا إسْلَامٌ وَجَاهِلِيَّةٌ وَبِرٌّ وَفُجُورٌ وَإِنْ كَانَ الشَّيْخُ فِيهِ إسْلَامٌ وَدِيَانَةٌ وَلَكِنْ عِنْدَهُ قِلَّةٌ مَعْرِفَةٍ بِحَقِيقَةِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ عَرَفَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ أَنَّ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ كَرَامَاتٍ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ كَمَالَ الْوِلَايَةِ وَأَنَّهَا الْإِيمَانُ وَالتَّقْوَى وَاتِّبَاعُ الرُّسُلِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا أَوْ يَعْرِفُ ذَلِكَ مُجْمَلًا وَلَا يَعْرِفُ مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ الْبَاطِنِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ مَا يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْأَحْوَالِ الرَّحْمَانِيَّةِ وَبَيْنَ النَّفْسَانِيَّةِ والشيطانية كَمَا أَنَّ الرُّؤْيَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ. رُؤْيَا مِنْ اللَّهِ وَرُؤْيَا مِمَّا يُحَدِّثُ الْمَرْءُ بِهِ نَفْسَهُ فِي الْيَقَظَةِ فَيَرَاهُ فِي الْمَنَامِ وَرُؤْيَا مِنْ الشَّيْطَانِ. فَكَذَلِكَ الْأَحْوَالُ. فَإِذَا كَانَ عِنْدَهُ قِلَّةُ مَعْرِفَةٍ بِحَقِيقَةِ دِينِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَمَرَتْهُ الشَّيَاطِينُ بِأَمْرٍ لَا يُنْكِرُهُ فَتَارَةً يَحْمِلُونَ أحدهُمْ فِي الْهَوَاءِ وَيَقِفُونَ بِهِ بِعَرَفَاتِ ثُمَّ يُعِيدُونَهُ إلَى بَلَدِهِ وَهُوَ لَابِسٌ ثِيَابَهُ لَمْ يَحْرُمْ حِينَ حَاذَى الْمَوَاقِيتِ وَلَا كَشَفَ رَأْسَهُ وَلَا تَجَرَّدَ عَمَّا يَتَجَرَّدُ عَنْهُ الْمُحْرِمُ وَلَا يَدْعُونَهُ بَعْدَ الوقوف: يَطُوفُ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ وَيَرْمِي الْجِمَارَ وَيُكْمِلُ حَجَّهُ بَلْ يَظُنُّ أَنَّ مُجَرَّدَ الوقوف:- كَمَا فَعَلَ- عِبَادَةٌ وَهَذَا مِنْ قِلَّةِ عِلْمِهِ بِدِينِ الْإِسْلَامِ وَلَوْ عَلِمَ دِينَ الْإِسْلَامِ لَعَلِمَ أَنَّ هَذَا الَّذِي فَعَلَهُ لَيْسَ عِبَادَةً لِلَّهِ وَأَنَّهُ مَنْ اسْتَحَلَّ هَذَا فَهُوَ مُرْتَدٌّ يَجِبُ قَتْلُهُ بَلْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْإِحْرَامُ عِنْدَ الْمِيقَاتِ وَلَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ الْمُحْرِمِ اللُّبْسُ فِي الْإِحْرَامِ إلَّا مِنْ عُذْرٍ وَأَنَّهُ لَا يَكْتَفِي بِالوقوف: بَلْ لابد مِنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ وَعَلَيْهِ أَنْ يَفِيضَ إلَى الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَيَرْمِيَ جَمْرَةَ العقبة وَهَذَا مِمَّا تُنُوزِعَ فِيهِ هَلْ هُوَ رُكْنٌ أَوْ وَاجِبٌ يَجْبُرُهُ دَمٌ؟ وَعَلَيْهِ أَيْضًا رَمْيُ الْجِمَارِ أَيَّامَ مِنًى بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ تَحْمِلُ أحدهُمْ الْجِنُّ فَتُزَوِّرُهُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَغَيْرَهُ وَتَطِيرُ بِهِ فِي الْهَوَاءِ وَتَمْشِي بِهِ فِي الْمَاءِ وَقَدْ تُرِيهِ أَنَّهُ قَدْ ذُهِبَ بِهِ إلَى مَدِينَةِ الأولياء وَرُبَّمَا أَرَتْهُ أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ وَيَشْرَبُ مِنْ أَنْهَارِهَا. وَهَذَا كُلُّهُ وَأَمْثَالُهُ مِمَّا أَعْرِفُهُ قَدْ وَقَعَ لِمَنْ أَعْرِفُهُ؛ لَكِنَّ هَذَا بَابٌ طَوِيلٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهِ. وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنَّ أَصْلَ الشِّرْكِ فِي الْعَالَمِ كَانَ مِنْ عِبَادَةِ الْبَشَرِ الصَّالِحِينَ وَعِبَادَةِ تَمَاثِيلِهِمْ وَهُمْ الْمَقْصُودُونَ. وَمِنْ الشِّرْكِ مَا كَانَ أَصْلُهُ عِبَادَةَ الْكَوَاكِبِ إمَّا الشَّمْسُ وَإِمَّا الْقَمَرُ وَإِمَّا غَيْرُهُمَا وَصَوَّرَتْ الْأَصْنَامُ طَلَاسِمَ لِتِلْكَ الْكَوَاكِبِ وَشِرْكُ قَوْمِ إبْرَاهِيمَ- وَاَللَّهُ أَعْلَمُ- كَانَ مِنْ هَذَا أَوْ كَانَ بَعْضُهُ مِنْ هَذَا وَمِنْ الشِّرْكِ مَا كَانَ أَصْلُهُ عِبَادَةَ الْمَلَائِكَةِ أَوْ الْجِنِّ وُضِعَتْ الْأَصْنَامُ لِأَجْلِهِمْ وَإِلَّا فَنَفْسُ الْأَصْنَامِ الْجَمَادِيَّةِ لَمْ تُعْبَدْ لِذَاتِهَا بَلْ لِأَسْبَابٍ اقْتَضَتْ ذَلِكَ وَشِرْكُ الْعَرَبِ كَانَ أَعْظَمُهُ الْأَوَّلَ وَكَانَ فِيهِ مِنْ الْجَمِيعِ. فَإِنَّ عَمْرَو بْنَ لُحَيِّ هُوَ أَوَّلُ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السلام- وَكَانَ قَدْ أَتَى الشَّامَ وَرَآهُمْ بِالْبَلْقَاءِ لَهُمْ أَصْنَامٌ يَسْتَجْلِبُونَ بِهَا الْمَنَافِعَ وَيَدْفَعُونَ بِهَا الْمَضَارَّ فَصُنْعُ مِثْلِ ذَلِكَ فِي مَكَّةَ لَمَّا كَانَتْ خُزَاعَةُ وُلَاةَ الْبَيْتِ قَبْلَ قُرَيْشٍ وَكَانَ هُوَ سَيِّدَ خُزَاعَةَ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «رَأَيْت عَمْرَو بْنَ لحي بْنِ قَمْعَةَ بْنِ خندف يَجُرُّ قَصَبَهُ فِي النَّارِ- أَيْ أَمْعَاءَهُ- وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إبْرَاهِيمَ وَسَيَّبَ السَّوَائِبَ وبحر الْبَحِيرَةَ». وَكَذَلِكَ- وَاَللَّهُ أَعْلَمُ- شِرْكُ قَوْمِ نُوحٍ وَإِنْ كَانَ مَبْدَؤُهُ مِنْ عِبَادَةِ الصَّالِحِينَ فَالشَّيْطَانُ يَجُرُّ النَّاسَ مِنْ هَذَا إلَى غَيْرِهِ لَكِنَّ هَذَا أَقْرَبُ إلَى النَّاسِ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ الرَّجُلَ الصَّالِحَ وَبَرَكَتَهُ وَدُعَاءَهُ فَيَعْكُفُونَ عَلَى قَبْرِهِ وَيَقْصِدُونَ ذَلِكَ مِنْهُ فَتَارَةً يَسْأَلُونَهُ وَتَارَةً يَسْأَلُونَ اللَّهَ بِهِ وَتَارَةً يُصَلُّونَ وَيَدْعُونَ عِنْدَ قَبْرِهِ ظَانِّينَ أَنَّ الصَّلَاةَ وَالدُّعَاءَ عِنْدَ قَبْرِهِ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْبُيُوتِ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا مَبْدَأَ الشِّرْكِ سَدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْبَابَ كَمَا سَدَّ بَابَ الشِّرْكِ بِالْكَوَاكِبِ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ أَنَّهُ قال قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ: «إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم ذُكِرَ لَهُ كَنِيسَةٌ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ وَذُكِرَ مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرُ فِيهَا فَقال: «إنَّ أُولَئِكَ إذَا مَاتَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ أُولَئِكَ هُمْ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قال صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِ مَوْتِهِ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا قالتْ عَائِشَةُ: وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا» وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَد وَصَحِيحِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَنَّهُ قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمْ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ وَاَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ» وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ عَنْهُ أَنَّهُ قال صلى الله عليه وسلم: «لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا على حَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي». وَفِي مُوَطَّإِ مَالِكٍ عَنْهُ أَنَّهُ قال صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الهياج الأسدي قال: قال لِي علي بن أَبِي طَالِبٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَلَا أَبْعَثُك عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَنِي أَنْ لَا أَدَعَ قَبْرًا مُشْرِفًا إلَّا سَوَّيْته وَلَا تِمْثَالًا إلَّا طَمَسْته فَأَمَرَهُ بِمَحْوِ التِّمْثَالَيْنِ: الصُّورَةِ الْمُمَثِّلَةِ عَلَى صُورَةِ الْمَيِّتِ وَالتِّمْثَالِ الشَّاخِصِ الْمُشْرِفِ فَوْقَ قَبْرِهِ. فَإِنَّ الشِّرْكَ يَحْصُلُ بِهَذَا وَبِهَذَا.